وصلت إلى وجهتي الأوروبية منهكة القوى. طلبت سيارة توصيل من احدى التطبيقات المعروفة ليصلني إشعار بأنه استثنائيا سيتم إرسال سيارة فخمة من فئة الأعمال. أضحكتني الفكرة، سأستقل سيارة فخمة من درجة الأعمال لأذهب إلى فندق من تصنيف نجمتين. سأبدو كسيدة أعمال تحترم أولوياتها في التدبير الاقتصادي أو ربما على مشارف الإفلاس(و هو الأقرب للمنطق و وضعيتي الاقتصادية حينها) لكنها لا تتنازل أبدا عن برستيجها و هي في الطريق، ربما تبعا لفكرة أن الكل يراك في الشارع، يرى ما تركب وما تلبس و ما تأكل، كيف تجلس أو تمشي كيف تتحدث و كيف تأكل، لكن نادرون من يعرفون أين تنام، كيف تنام أو إن كنت تتقلب من الأرق في سرير موحش ... ربما هذا يدخل ، ولو بشكل سطحي، في نطاق ما عبر عنه ماكيافيلي بقوله: " الجميع يرى ما تبدو عليه، لكن قلة منهم يدركون حقيقتك".
على أي، أنا أدرك أنني سيدة أعمال فاشلة، ولا أحتاج إلى أن أحسن من صورتي الخارجية، فمهما فعلت تخونني تعابير وجهي و تفاهتي لدرجة أنني رفضت في مقابلات عمل لانني "مبتدئة" على حد تعبير أحد المحاورين الذي استطاع استنتاج ذلك بذكائه الخارق خلال محادثة من ربع ساعة ليعجب فيما بعد بخبرة شخص آخر، أنا من أرسلته دون علم هذا المحاور و شرحت له طبيعة المهمة المطلوبة و طبيعتهم و ما يجب عليه أن يتفاداه خلال محادثتهم ... الخ الخ الخ، و بكل تواضع أقول أنني لا أقل عنه خبرة تقنية و عملية.
لنعد إلى بوابة المطار حيث كنت أنتظر سيارتي الفاخرة. أثار فضولي اسم السائق على التطبيق: "احتشام". اسم أصادفه لأول مرة، وهو للأمانة اسم جميل لكنه مقلق نوعا ما لا لشيء لأنني استطعت تخمين جنسية السائق... مهلا، قبل أن تبدؤوا بإصدار الأحكام دعوني أخبركم أنها ليست بقضية عنصرية على الإطلاق، بل فقط أنني بفضل خبرتي المتواضعة في السفر، أعرف كيف يقود كل سائق حسب جنسيته و ذلك طبعا راجع إلى الطريقة التي تعلم بها السياقة في بلده، فحين أرى سائقا من هذه الجنسية أبدأ بالدعاء لعل و عسى ان يخيب توقعي، فالسائقون من هذه الجنسية يقودون و قدمهم على الفرامل طوال الوقت، لكن احتشام سائق خارق فاق كل التوقعات.
وصلت سيارة ليكسوس السوداء طراز 2023 إلى موقف المطار، كم تبدو براقة و هي قادمة نحوي كما لو أنها أخطأت العنوان، لولا رقمها على التطبيق. استقليت السيارة كآنسة من الطبقة المخملية الخاملة جاء سائقها الشخصي ليقلها إلى إقامتها الفخمة بعد عطلة جميلة و مكلفة قضتها بين جبال سويسرا. ما إن أقفلت الباب حتى أحسست بصداع نصفي شديد مصحوب بدوار وغثيان، ظننت لوهلة أن هذه أعراض عياء السفر و الجيوب الأنفية الملتهبة التي تنضغط و تتمدد مع تغيرات ارتفاع الطائرة، ثم فطنت أن السبب هو نقص الهواء داخل السيارة. هممت بفتح النافذة، فإذا بها تأبى أن تفتح. طلبت من السائق أن يفتح النافذة ولو قليلا ليفاجئني برده الصارم وبكل ثقة أن في هذه السيارة يمنع منعا باتا فتح النوافذ و هي سياسة عامة هنا في السيارات الفخمة! لم أفهم جيدا ما عناه بسياسة عامة و منع! من وضع هذا القانون؟ أحسست أني أختنق كما لو أني في أحد المقاعد الخلفية لطاكسي كبير بالدار البيضاء! تحركت السيارة و أنا أعتقد أن المكيف سيشتغل على الأقل، فإذا بالهواء داخلها يزداد تلوثا برائحة غريبة غير معهودة، رائحة كفيلة بأن تدخلني في غيبوبة إذا لم تفتح النافذة فورا. أعدت طلبي لعله "يحشم" فإذا به يستفيض في شرح كيف أن هذه سيارة من الطراز الرفيع و أنه لايريد لها أن تتلوث بالغبار الخارجي لأن تنظيفها مكلف علاوة على أن كثرة تنظيفها ستجعلها تبدو قديمة!!! عن أي غبار يتحدث؟ مازلنا لم نبتعد بعد عن محيط المطار والشوارع كلها تبدو نظيفة ! أخبرته أن رأسي سينفجر من الألم من قلة الأوكسجين. وافق أخيرا على مضض بعد أن تأكد من صفار وجهي، شرط أن يغلقه حين ننخرط في الطريق السيار. ثم أسهب في الحديث كيف أن راكبا قبلي أيضا طلب فتح النافذة و أنه رفض و أن الراكب أعطاه تقييما سلبيا على التطبيق رغم أنه قام بعمله على أكمل وجه (وااااو) ليبدأ بانتقاد الزبون، كيف لا وقد انتقد سيارته الفخمة و طعن في شرفها بقوله أنه تنبعث منها رائحة نتنة و هو الذي يعتني بها و يسهر على أناقتها و نقائها و أنه شخصيا يشتغل فيها طيلة اليوم دون أن تصل الرائحة المتعفنة الى خياشيم أنفه. في هذه اللحظة، و بما أن النافذة مفتوحة و عندي ما يكفي من الاوكسيجين لأملأ رئتي حتى قمة رأسي، أدركت أن هناك رائحة جيفة معنا في السيارة، رائحة عبارة عن مزيج بين راس الحانوت و المساخن و عناصر اخرى لم استطع تمييزها، و ندمت أنني لم ألغ رحلة التوصيل هاته عند أول نقاش حول النافذة ، بدأت أفكر في الطريق السيار حيث سيتحتم علينا إغلاق النافذة كلية. قاطع تفكيري بسؤاله و بثقة كاملة في نفسه و سيارته إذا ما كنت أشاطره الرأي حول رائحة السيارة العطرة. و في لحظة من لحظات نباهتي السريعة تفتق ذهني عن جواب دبلوماسي ينصف الزبون دون أن يجرح مشاعر السائق الرقيقة تجاه سيارته لأخبره بأن الجلد و الأثواب التي تغلف الكراسي تطلق رائحة إذا ما تعرضت كثيرا للشمس والحرارة دون تهوية مناسبة، وهي ليست مجرد كذبة بيضاء بل جزء من الحقيقة. نظر إلي عبر المرآة كما لو أنه يقول "كيف تجرئين على انتقاد حبيبتي؟ How dare you?"
وصلنا الى الطريق السيار، كنت أأمل أن ينسى إغلاق النافذة، و بطبيعة الحال لم ينس. أثناء حديثنا السابق تفحصت السيارة جيدا، فهي فخمة من طراز رفيع، و لذلك فهي تمتلك نظام تهوية و تبريد مستقل للكراسي الخلفية، و لكنه بطبيعة الحال غير مشغل، لا يمكنني تخمين أي ذريعة ستجود بها قريحة احتشام لتبرير عدم استخدامها. ما إن أغلق النافذة و بدأت أعراض الاختناق تزداد خصوصا مع ازدياد الرائحة كلما تحرك سائقي العزيز، حتى بادرته بسؤالي عن نظام التهوية وإن كان يشتغل. أجابني بكل حزم أنه لا يشغله في هذه السيارة و أنه لا يمكن تشغيله سوى لبضع دقائق لسبب من الأسباب نسيته أو ربما لم أسمعه لأني لم و لن أأبه به! أجبته بحزم مماثل و بكل جدية أن حالتي الصحية تستوجب مايكفي من الاكسجين لتخفيف آلام الصداع النصفي، هذا بغض النظر عن الرائحة النتنة، فالسيارة مقفلة نوافذها ولا مكيف هواء ! "حشم" احتشام أخيرا، و رغم أنه قال في البداية أنه سيسمح بتشغيله مدة خمس دقائق لا غير، فقد تركه طيلة الطريق السيار، ليغلقه فور خروجنا منه. و لأول مرة لم أنزعج من الفرامل المتكررة بدون سابق انذار أو حتى سبب مقنع، أو من الانعطافات المفاجئة التي تجعلني العن مع كل انعطاف "قوة القصور الذاتي" التي درسناها في الفيزياء و الميكانيك و ألعن معها ذاكرتي التي تحتفظ بأسماء و أشياء لم تعد تنفعني بشيء يذكر.
وصلنا أخيرا الى الفندق. لا لم تنته بعد الحكاية، احتشام راه والله ماكايحشم و محال واش عندو علاياش يحشم. أوقف احتشام السيارة على يسار مدخل الموقف تحت-أرضي و هو على شكل نفق تعبره السيارات. ليقول لي بكل حزم لقد وصلنا. احتشام يتوقع مني أن أنزل وسط الشارع، وأن أتجاوز السيارات التي تدخل النفق، بأمتعتي، بعيدا عن ممرالراجلين، و أن أحمل حقيبتي لأتجاوز الرصيف العالي! هناك على الأقل مكانين آمنين للوقوف يسمحان بجر الامتعة عبر ولوجية الرصيف، لكن احتشام قرر أن يقف بينهما عند النفق، متجاهلا دعامة الرقبة التي أرتديها و الرباط الملفوف على معصمي، و ضاربا عرض الحائط كل قوانين و قواعد سير بلده المضيف. هنا احتشام، سائق له قوانينه الخاصة و لائحة من الممنوعات وضعت لحماية حبيبته لوكوس من الشيخوخة المبكرة. أشرت إليه بأن يصحب حبيبته الى المكان المخصص للوقوف، بدا الانزعاج على محياه و كأنه يقول ألم ننته بعد من هذه الرحلة؟ لا تقلق فأنا أيضا تساءلت التساؤل عينه.
ماكيافيلي كان على حق و قولته تمتد إلى السيارات. ففعلا الكل كان يرى ما تبدو عليه سيارة احتشام من فخامة ونظافة، لكن قلة فقط ممن ركبوها خبروا حقيقتها. توجهت أخيرا إلى بوابة الفندق ذي النجمتين، أستنشق الهواء النظيف، و أنا أتمتم الله انعل الشيفور لي مايحشم و مايستحم.